سأرحل إن لم ..
لم أبدأ الكتابة يوماً لأنني اخترت ذلك، ولم يكن قراراً واعياً أو تخطيطاً مدروساً، بل كانت ضرورة فرضتها الحياة حين أصبح الصمت لا يُحتمل، كُنت أعيش في محيط مليء بالأصوات الصاخبة والأحاديث التي لا تنتهي، حيث يتوجب عليَّ أن أُبدي رأيي، أن أنجح في عملي، أن أناقش الآخرين، أن أبرم الصفقات وأقدّم المحاضرات، في ظاهر الأمر، كنتُ شخصاً طبيعياً متماسكاً واثقًا من نفسه، يؤدي الدور المطلوب بإتقان شديد، لكن خلف هذا القناع، كنتُ أعاني من هشاشة عميقة، كسر داخلي لا يُرمَّم، شيء مجهول يتلوّى في أعماقي دون أن يملك اسمًا واضحاً أو شكلاً محدداً.
في البداية، لم تكن لدي لغة تُسعفني لوصف ما أشعر به؛ لم يكن لدي سوى صراخ داخلي مستعر، يرافقه شعور بالاختناق، كل ما بداخلي يريد الخروج ولكنه عاجز عن ذلك، كان هذا الإحساس مزيجاً غريباً من الألم والرغبة في البُكاء، لكنّ هذه الدموع تبقى محبوسة بين جدران روحي.
ثم جاء اليوم الذي أمسكت فيه بالقلم للمرة الأولى -نعم كان قلماً قبل أن أتحوّل إلى الكيبورد والأجهزة التي ترافقني باستمرار-، لم أكن أنوي كتابة شيء جميل أو نصّ مُرتَّب ذي معنى، بل كانت الكتابة في ذلك اليوم أشبه بتقيّؤ روحي، رغبة مُلحّة في إفراغ ما بداخلي من ضجيج/ لم تكن البداية شاعرية، لم تكن مدروسة، لم تكن حتى رغبة في أن أصبح كاتب، كانت ببساطة ردة فعل غريزية للبقاء على قيد الحياة.
منذ ذلك اليوم تغيّر كل شيء، أصبحت الكتابة ضرورة حتمية في حياتي، ليست مجرد خيار أو هواية أو موهبة أمارسها لأستمتع أو لأُعبر عن أفكار محددة، بل هي السبيل الوحيد لأتحمل نفسي وأواصل الحياة، صارت الكتابة ملاذي الوحيد، كهفي الذي ألجأ إليه، ودرعي الواقي من هجمات اليأس والقلق، هي أيضًا السكين الحادة التي أستخدمها لقطع حبال الخوف الممتدة في أعماقي.
كل مرة أكتب فيها، أشعر كأنني أمدُّ يدي نحو حبل ممتد داخل روحي، حبل عميق وغائر، مغطّى بالكلمات، وكل كلمة هي ثمرة ناضجة، حلوة وشهية، لكنها محاطة دائمًا بشوك من الألم والمعاناة، وكل مرة أسحب فيها هذا الحبل لأُخرج كلمة واحدة، أدفع الثمن، ينتابني غثيان، وضيق في التنفس، وصداع متواصل، وأرق لا يزول بسهولة، لكن ما إن تولد الكلمة وتظهر أمام عيني، حتى يتملكني شعورٌ غريبٌ بالخلاص، إحساس قصير الأمد لكنه شديد العمق.
أنا لا أعيش أوهامًا بأنني سأصل إلى نهاية هذا الحبل يومًا ما، أعرف جيدًا أنه حبل طويل، بل ربما لا نهاية له، يمتدّ عبر مساحات شاسعة في داخلي لم أكتشفها بعد، رغم ذلك، أنا على استعداد لمواصلة سحبه بكل قوة، لأن الكتابة هي الشيء الوحيد في حياتي الذي لا يخونني، لا يخذلني، ولا يتركني في منتصف الطريق، هي الوحيدة التي لا تترك وشوماً تبقى.
منذ فترة ليست بالبعيدة شعرت بشيء جديد وغريب يتحرّك بداخلي، غولٌ استيقظ فجأة من سُبات عميق، لم أعرف اسمه، ولا من أين جاء، لكنه كان يشبه الرغبة الملحّة، الجوع الشديد، بدأ جسدي يتحرك، وبدأت مخيلتي تعصف بي، والصوت المزعج في رأسي يزداد ارتفاعًا، والحنين يزداد عُمقًا، عندما أكتب لا لأُنتج أو أُبدع، بل لأتنفس فقط، لأبقى حيًا ولو للحظات قصيرة.
الكتابة تشبه النار التي تزداد اشتعالاً كلما التهمت شيئاً من روحي، كل كلمة تخرج منّي تترك خلفها فراغاً، والجوع الذي تتركه هذه النار يصبح أكبر وأعمق، أما أنا، فأتحول شيئاً فشيئاً إلى مجرد وقود لها، أحترق، لكني اخترت الاحتراق على أن أموت مُختنقاً، لا أسعى لأن أُرضي أحدًا، ولا أريد أن أشرح نفسي لأحد، أريد فقط أن أفتح النافذة وأسمح لكل ما بداخلي أن يخرج بحرية، أن يتحرّر من سجنه الطويل، قد أندم بعد ساعات، قد أشعر بالتناقض في اليوم التالي، لكن اليوم سأكتب، لأن البديل الوحيد هو الصمت، والصمت موتٌ بطيء لا يناسبني.
لهذا أكتب وأكتب وأكتب، لا لأبهر أحد، بل لأنني إن توقفت يومًا عن الكتابة سأرحل.